المصراويه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المصراويه

إسلاميات.المواقع الرياضيه.أفلام.الصحف اليوميه. وظائف
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
romero
Admin



المساهمات : 72
تاريخ التسجيل : 21/04/2011

سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي  Empty
مُساهمةموضوع: سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي    سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي  Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 1:11 pm



بقلم
سلمان هادي الطّعمة
كربلاء - الجمهورية العراقية

في فجر حياتي الأدبية شغفت بأبي محسَّد، وكان هذا الشغف يكبر معي.. لذا كانت هذه الدراسة استقطارا لذلك الشغف المتنامي.
كفى العربية فخرا شامخا وعزا ساميا أن تنجب هذه الشخصية الفريدة في فكرنا العربي. ولا أحسب شاعرا عربيا كان يمكن أن يكون في هذا العصر أبعد صرخة وأكثر حماسة وأورى زندا من هذا الشاعر. وقد لا أعدو الصواب إذا قلت أن المتنبي أغزر الشعراء فضلا وأوسعهم شهرة وأعلاهم منزلة، فقد رفع شأن الشعر العربي وأحله مرتبة لم تكن له من قبل، وحمل الراية عاليا، وفتح للشعراء طرائق الخلد، وسن لهم سنن المجد. وبذلك تبوأ مكانة رفيعة ومنزلة سامية، مما دفعنا إلى الإعجاب بعبقريته والافتتان بشعره.
ولد الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي في محلة كندة بالكوفة . وقد أجمع الرواة أن تاريخ مولده هو سنة 303 هـ. ذكره ابن خلكان في تاريخه فقال: أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار والله أعلم . وقال عنه ابن رشيق في كتابه العمدة: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس ذلك هو أحمد بن الحسين الملقب بأبي الطيب المتنبي) .
ومهما يكن فهو عربي الأصل، نشأ في أسرة فقيرة، ويعرف أبوه بعبدان السقاء كان عمله سقاية الماء في محلة كندة، وقد أرسله حين درج إلى مدارس العلويين في الكوفة ليتعلم فيها القراءة والكتابة مع فريق من أولاد أشراف العلويين. وأخذ يختلف على دكاكين الوراقين لمطالعة بعض الكتب والكراريس، وكانت هذه الحوانيت منتدى للأدب، يقصدها العلماء والأدباء والباحثون، فلا بد أنه كان يلقى فيها كثيرا منهم ويتصل بهم. وطبيعي أن تلك الحوانيت هي التي مهدت للمتنبي ثقافته الأولى، ساعده على ذلك ذكاؤه الحاد، ويروى عنه أنه كان قوي الذاكرة، سريع الحفظ. وأنه ذهب إلى البادية وأقام فيها سنتين لتقويم لسانه وتعلم اللغة. ويبدو أنه سافر لهذه الغاية عندما أغار القرامطة على الكوفة سنة 312هـ، وغادرها ثانية سنة 319هـ مع كثير من أهلها لعودة القرامطة إليها بعد انتصارهم على جيوش الخلافة. ويحدثنا الرواة أنه خرج إلى بادية بني كلب. فأقام بينهم مدة ينشدهم من شعره ويأخذ عنهم اللغة، فعظم شأنه بينهم، حتى وشى بعضهم إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيدية بأن أبا الطيب ادعى النبوة في بني كلب وتبعه منهم خلق كثير، ويخشى على ملك الشام منه، فخرج لؤلؤ إلى بني كلب وحاربهم وقبض على المتنبي وسجنه طويلا ثم استتابه وأطلقه . ونحن لا ندري على وجه التحقيق لم ذهب المتنبي إلى البادية، هل ذهب إلى هناك ليتقن اللغة، أم أن أباه اضطر إلى الهرب من الكوفة واللجوء إلى الصحراء نتيجة للحوادث السياسية والاضطرابات التي كانت تتعرض الكوفة آنذاك!! فنحن نعلم أن الكوفة كانت عرضة لهجمات القرامطة الذين أقاموا لهم حكومة في البحرين، وكان النزاع بين رئيسهم أبي طاهر وبين الخلافة العباسية شديدا، فقد هاجم أبو طاهر البصرة سنة 311هـ، وقطع طريق الحج وسلب الحجاج العائدين من مكة سنة 312هـ.
وفي السنة نفسها قطع طريق الحجاج العراقيين الذاهبين إلى مكة، واغتنم فرصة الذعر الذي استولى على العراقيين، فدخل الكوفة ونهبها وضربها ثم عاد إلى البحرين. فلعل هجرة والد أبي الطيب إلى البادية كان نتيجة لهذا الذعر الذي لحق الكوفيين. ومهما يكن من سبب هذه الهجرة إلى البادية، فإننا نعلم أن والده استقر به في بادية السماوة عند بني الصابي، وهم فرع من جشم بن همدان أخواله، ومكث سنتين في بادية السماوة، ويبدو أن القرمطية اجتذبت في بدء ظهورها أنصارا لها من أوساط البدو المتحمسين. ولعل تلك الدعوة تناولت القبائل كافة ، مما حمل الدكتور ر. بلاشير على الاعتقاد بأنه لقي بعض القرامطة فتأثر بهم، فإن لم يتأثر بالدعوة القرمطية فليس بمستبعد أن يكون أصابه الاضطراب من جراء المأساة التي قلبت أوضاع الخلافة ويتابعه في هذا الرأي الدكتور طه حسين إذ قال: إن المتنبي قد أصبح قرمطيا من أثر بقائه في البادية، إذ أن القرامطة منذ ظهروا كانوا يجدون في بادية الشام حماسة للدعوة، فهو تأثر بهم أو أنه أصبح داعية من دعاتهم، وأنه طمع في أن يستهوي (بدر بن عمار أمير طبريا) إلى قرمطيته القديمة
عاد المتنبي إلى الكوفة ، ورجح بعض الباحثين أن ذلك كان سنة 315هـ، واستقر في الكوفة ، ولا نعلم على وجه التحقيق كيف قضى المتنبي حياته في الكوفة بعد عودته إليها، وكل الذي نعلمه أنه اتصل بشخص يعرف أبو الفضل الكوفي، وأبو الفضل هذا رجل قد ثقف الفلسفة. يقول صاحب الخزانة: إن أبا الطيب وقع في صغره إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل . ولا ندري إذا كان أبو الطيب قد درس عليه الفلسفة حقا! وكل الذي نعلمه أن صاحب الوساطة يذكر لنا شعره الذي تأثر فيه بالفلسفة اليونانية، فهل كان ذلك لأنه درس الفلسفة، أو كان من أثر هذه الآراء العامة التي كانت شائعة بين المثقفين في ذلك العصر‍! ونحن أميل إلى الاعتقاد الثاني، فدراسة الفلسفة لا بد أن تكون قد تركت لها آثارا على شعره. وقد مدح أبو الطيب أبا الفضل بقصيدة غريبة فيها أبيات تلفت النظر أنها في الحقيقة تحوي آراء هي التي حملت بعض الباحثين على القول باعتناق المتنبي لمذهب القرامطة. ولكن ناشر ديوان المتنبي يقول عنها إن المتنبي إنما قالها ليمتحن عقب أبي الفضل، وكلا التفسيرين يجانبان الواقع، فنحن نعتقد أن المتنبي إنما ذكر هذه الصفات وهذه الآراء ليفخم بممدوحه، وأن المتنبي لم ير بأسا في مدح من يعتنق هذه المبادئ فيقول مثلا:
يا أيها الملك المصفى جوهرًا
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
نور تظافر فيك لاهوتيّه فتكاد تعلم علم ما لم يعلما
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة من كل عضو منك أن يتكلما
أنا مبصر وأظن أني نائم من كان يحلم بالإله فأحلما
كبر العيان عليَّ حتى أنه صار اليقين من العيان توهما
ولكن هذا الكلام، وإن كان صريحا في ذكر الحلول، فلا يدل على أن المتنبي كان قرمطيا، وربما كانت هذه عقيدة ممدوحه أبي الفضل فذكرها تقربا إليه، وهو على كل حال، يدل على عدم اهتمام المتنبي بالتمسك بروح الدين. وبعد رجوعه من البادية إلي الكوفة ، لم يطل مكثه بها، فتركها إلى بغداد ، ولم يبق في بغداد طويلا، فخرج عنها إلى الشام. يقول طه حسين: إن المتنبي إنما ترك الكوفة بسبب عقيدته القرمطية خشية على نفسه من يؤاخذ، وأنه خرج إلى الشام بسبب هذه العقيدة ليتصل بالدعاة هناك ويعمل على نشر الفكرة .
ونحن نرى أن في هذا الرأي إسرافا في الاستنتاج، فقد كان المتنبي حدث السن، وليس من المعقول أن يوكل إلى الأحداث مثل هذا النشاط الذي يريد طه حسين أن ينسبه إلى المتنبي. نحن أميل إلى الاعتقاد بأن المتنبي إنما قصد به أبوه إلى بغداد، بعد أن تجلت قدرته على قول الشعر طلبا للرزق هناك، ولكنه لم يحظ في بغداد بما كان يأمل بسبب حداثة سنه ولأن أداة الشعر لم تكن قد استكملت في نفس المتنبي. ويميل الدكتور بلاشير إلى الظن بأن المتنبي قد طالت إقامته في بغداد عاصمة الخلافة فاتصل هناك بالعلماء والأدباء يأخذ عنهم . ولم تكن هذه الإقامة لمجرد الاستعداد للخروج إلى الشام كما يرى الدكتور طه حسين، وكلا الرأيين يقومان على الحدس والظن أكثر مما يستندان إلى دليل تاريخي. ولكن الذي لا ريب فيه هو أن المتنبي لم يبق طويلا في بغداد ، وأنه خرج إلى الشام وهو لم يبلغ العشرين من عمره. ونرى أن الأحداث التي كانت تجري في الشام من نزاع بين الإخشيديين وبين خلفاء بغداد ومحاولات الطامعين إنشاء دولة والسيطرة على المدن وإقامة ملك لهم هو الذي لفت المتنبي إلى الذهاب إلى هناك، لأنه قد وجد في مثل هذا الوسط المضطرب مجالا لتحقيق طموحاته التي ولدتها في نفسه آراء القرامطة من ناحية وطموح طبيعي في نفسه من ناحية أخرى، ولأنه في الشام لا يعرفه أحد فلا يمكن أن تقف قصة مهنة أبيه عائقا في تحقيق مثل هذه المطامح. فالناس هناك يجهلون مثل هذه المهنة. ونحن نرى أن المتنبي في هذه الفترة اتصل بالرؤساء والزعماء يمدحهم ولا يكاد يستقر في محل إلا ليتركه إلى محل آخر. يقول عبد الجواد السيد إبراهيم: كانت غرة رحلاته الميمونة إلى بلاد الشام حيث انتقل من بدوها إلى حضرها وقصد طبرية واللاذقية وأنطاكية ، فاتصل في طبرية ببدر بن عمار وفي اللاذقية بالتنوخيين وفي أنطاكية بأبي العشائر الحمداني قريب سيف الدولة، وكان يمدح من اتصل بهم لا يضن بمدائحه على أحد . استقر أول الأمر في الجزيرة وشمال الشام ومدح جماعة من رؤساء البادية وأغنياء الحاضرة وأوساطها أيضا ثم مضى فأقام في طرابلس ح ينا قصيرا، وانحرف إلى طبرية فأقام قليلا في اللاذقية اتصل بالتنوخيين وهم أمراء العرب فمدحهم ثم حدثت بعد ذلك الحادثة التي أدت به إلى السجن، وبقي في السجن نحوا من سنتين، وأطلق سراحه، فغادر جنوب سوريا إلى الشمال وظل ينتقل هناك بين الأمراء حتى هيأ له الاتصال بسيف الدولة. ولعل كثرة تنقله بين المدن وبين رؤساء القبائل مع إعلانه الثورة في شعره هو الذي جعل خصومه يكيدون له عند والي حمص فسجن. أصبح المتنبي خلال إقامته في الشام أكثر شهرة وأقدر على إثارة حسد الحاسدين وكيد الكائدين، واستطاع هؤلاء الحساد أن يكيدوا له عند والي حمص، فكتبوا إليه أبياته التي تدل على استهانته بالدين من ناحية واستعداده للثورة من ناحية أخرى. ولعل صاحب حمص قد خشي أن يثور المتنبي، فألقاه في السجن. ولكن من الرواة من يقول أن سبب سجنه هو ادعاؤه النبوة وخداعه أعرابا من كلب بهذه النبوة، وأن أمره كان يقوى حتى خرج إليه أمير حمص، ففرق جمعه وألقاه في السجن. يذكر ابن تغري بردي: ونزل ببني كلب وأقام فيهم وادعى أنه علوي حسيني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعوتين وحبس دهرا طويلا . وادعاء المتنبي للنبوة أمر مشكوك فيه، والقول فيه يرجع إلى روايات شفهية ثلاث، فالبديعي في (الصبح المنبي) يروي لنا رواية عن أبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي وخلاصتها أن الصداقة كانت متينة بين أبي عبد الله والمتنبي، وأن المتنبي قد أظهر له أنه نبي مرسل إلى هذه الأمة الضالة ليملأها عدلا كما ملئت جورا، وأنه يوحى له أيضا وأنه قد أوحى إليه مائة عبرة وأربعة عشر عبرة والعبرة يتجاوز مقدارها الآية من القرآن، وأن معجزته هو أن يحبس الدَّرَّ عن الإبل لقطع أرزاق العصاة الفجار، وأنه استطاع ذلك بحيلة أو بضرب من السحر. وأن أبا عبد الله هذا قد آمن به وامتدت دعوته من اللاذقية حتى وصلت سورية ووصلت السماوة. ورواية أخرى يرويها لنا القاضي ابن شيبان عن الخطيب البغدادي في تاريخه، يقول: إن أبا الطيب قد استقر عند بني كلب فادعى أنه علوي من نسل الحسين ثم ادعى أنه نبي ثم رجع عن دعوة النبوة إلى ادعائه العلوية فكان ذلك سبب سجنه. ويقال إنه كان في أثناء دعوته يذيع قرآنا له، وأن أحد الرواة قد كتب سورة من (قرآنه) ولك نه قد فقدها، ولم يبق من هذا القر آن إلا آيات علقت بذاكرته منها: (والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سننك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله) .
وكان أبو الطيب يومئذ يصرح بعبارته المشهورة: "لا نبيَّ بعدي" ويقول إن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بنبوته وقال: لا، نبيّ بعدي وأنا اسمي في السماء لا!"
هذه هي الروايات التي يعتمد عليها المؤرخون ويستنتجون منها أن أبا الطيب قد ترك الإسلام وأعلن النبوة، ومن أجل ذلك لقب بالمتنبي. والذي نلاحظه على تلك الروايات أن الذين يروونها أشخاص مجهولون، وأن رواياتهم قد تناقلتها الأفواه، فزادت فيها ونقصت، ولكننا نجد أن الرواة المعلومين ممن اتصلوا بالمتنبي وشرحوا شعره، أو ممن جاءوا بعده وعنوا عناية كبيرة بشعره لا يذكرون لنا شيئا عن هذه النبوة كابن جني و أبي العلاء المعري، ونحن نعلم أن أبا العلاء كان قليل الاهتمام في أمور الدين حتى إنه لا يرى بأسا أن يشير إلى هذه النبوة، ولكنه لم يفعل. وقد عرض المستشرق (كراتشكوفسكي) لهذه الروايات، وهو يقول عنها إنها روايات ساذجة غير جديرة بالاطمئنان، ويقول إن ديوان المتنبي لا يشير إشارة إلى دعوى النبوة، وأن شرّاح الديوان لا يعتقدون بذلك، وأن الذين ترجموا للمتنبي لا يذكرون هذه الرواية على أنها رواية قاطعة، كما أن المتنبي أنكر بطرق ادعاءه النبوة، وأن ابن جني صديق المتنبي يذكر أنه إنما لقب بالمتنبي لقوله:
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصـالح في ثمـود
ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود
وأن أباالعلاء المعري يقول في (رسالة الغفران): (وحدثت أن المتنبي كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب قال هو من النبوة أي المرتفع من الأرض وأنه قد طمح في شيء من الملك ولإبداعه في الشعر لقب بنبي الشعر كما يقول الطبسي حيث رثاه بعد قتله قال:
كان من نفسه الكبيرة في جيـ
ـش وفي الكبرياء ذا سـلطان
وهـو في شعره نبي ولكن وجدت معجـزاته في المعـاني
ويستنتج كراتشكوفسكي من ذلك كله أن قصة ادعاء أبي الطيب النبوة إنما هي قصة شعبية ذاعت لتفسر أسباب سجن أبي الطيب ويريد إلى ذلك قوله سواء صحت هذه القصة أم لم تصح، فلا يجب أن نغير شيئا عن رأينا في عقيدة أبي الطيب الدينية. فهو إذا صح ادعاؤه النبوة قد ترك الإسلام ولم يعترف بأن محمدا خاتم الأنبياء وأنها إن كانت كاذبة تظهر لنا رأي الأديان التي جاءت بعد المتنبي في عقيدته الدينية. وقد ذكر هذا في آراء عباس محمود العقاد أيضا. ولا نعلم إذا كان قد اطلع على رأي كراتشكوفسكي حين كتب ذلك أو لم يطلع. نرى أن قيمة رأي كراتشكوفسكي إنما هي في مناقشة الروايات المذكورة، فهو يرجح بالقول أن الشراح لم يكونوا يصدقون دعوى النبوة، ونحن نعلم أن الشراح كانوا من المعجبين بالمتنبي، وكانوا معروفين بالتمسك بالدين، فلم يكونوا راضين ‎أن هذا الشاعر الذي أعجبوا به خارج عن الإسلام فلم يحاولوا في تفسيراتهم المختلفة أن يخفوا في شروحهم كل الأشعار التي تحمل على الظن بأن المتنبي كان مستخفا بالدين، فلذلك كانوا أجدر بأن يرفضوا دعوى النبوة هذه، ثم إن الذين ترجموا للمتنبي لم يجمعوا على رفض هذه الفكرة، بل إن اثنين منهم يبديان رأيهم الصريح فيصدقان ادعاء المتنبي النبوة. ومهما يكن فإن الديوان لا يشير صراحة إلى هذه النبوة، فإن فيه قطعا تدعو صراحة إلى الثورة، ومن المحتمل أن شعره كان يحوي قطعا أكثر مما جمعه في ديوانه، ويمكننا أن نستنتج بعد هذا على الأقل أن المتنبي كان يدعو إلى الثورة في الإسلام، وأنه كان يخلط هذه الدعوة بأفكار دينية وهو أمر يحملنا إنكاره على تجاهل الطور التاريخي الذي كانت تحدث فيه الثورات حينذاك إذ لم تكن توجد وسيلة لجذب الناس والتفافهم حول الداعي إلا هذه الوسيلة، فنحن نعلم أن المتنبي لم يكن صاحب مذهب اجتماعي يساعد الناس على الالتفاف حوله، ثم أنه كان بعد شابا لم يستطع أن يكون له مثل هذا المبدأ ولم يكن معروفا كشاعر، ولذلك فإن منطق الحوادث يحملنا أن نسلكه في جملة الثائرين الدينيين الذين كثر ظهورهم في تلك الفترة من تاريخ الإسلام يؤيدنا في ذلك كثرة اتصال المتنبي بالقرامطة، وذكر آرائه في مدح رجل منهم واستعداده وشعره الذي يدل على استعداده للثورة فهو يقول:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
فاليوم أقحم حتى لات مقتحم
لأتركنَّ وجوه الخيل ساهمة والحرب أقوم من ساق على قدم
والطعن يحرقها والزجـر يقلقها حتى كـأن بها ضربا من اللمم
قد كلمتها العوالي فهي كالحة كأنما الصاب معصوب على اللجم
بكل منصلت ما زال منتظري حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستحل دم الحجاج في الحرم
إن تلك الأبيات التي يصرح فيها أبو الطيب عن عزمه على الثورة واستعانته بشيخ لا يتردد عن سفك دم الحجاج في الحرم، ويرى الصلاة نافلة تدل بصراحة على أن ثورته كانت ذات وجه ديني، وهذا يحقق لنا قوة ادعاء المتنبي للنبوة، فالمتنبي لم يكن كاذبا حين أنكر أنه لم يدع النبوة، أي إنه لم ير أن يكون نبيا كمحمد ولكنه قام بحركة ذات فكرة دينية، فهو لم يكن طبقي الفكر، ولكنه أراد أن يتزعم حركة دينية تحقق له مطامحه متأثرا بآراء القرامطة من غير شك، ففشل فيها وسجن ولقب بعد سجنه بالمتنبي. وقد أبدى في سجنه صبرا، فهو يقول مخاطبا سجانه أبا دلف:
أهون بطول الثواء والتلف
والسجن والقيد يا أبا دلف
غير اختيار قبلت برَّك بي والجوع يرضي الأسود بالجيف
كن أيها السجن كيف شئت فقد وطنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصة لم يكن الدر ساكن الصدف
ولكن يظهر أن سجنه قد طال، وبسبب من اضطهاده وإلحاق الجوع والمرض والاغتراب عليه، كتب إلى والي حمص قصيدة يستعطفه بها ومطلعها:
أيا خدد الله ورد الخدود
وقدَّ قدود الحسان القدود
فهنَّ أسلن دمًا مقلتي وعذبن قلبي بطول الصدود
وكم للهوى من فتى مدنف وكم للنوى من قتيل شهيد
فواحسرتا ما أمـرَّ الفراق وأعلق نيرانه بالكبود
إلى أن يصل قوله:
أمالك رِقِّي ومن شأنه
هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلاء وأوهن رجلي ثقل الحديد
وقد كان مشيهما بالنعال وقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل وها أنا في محفل من قرود
تعجل فيَّ وجـوب الحدود وحدّي قبل وجوب السجود
وقيل عدوت عن العالمين بين ولادي وبين القعـود
فما لـك تقبل زور الكلا م وقدر الشهادة قدر الشهود
فلا تسمعن من الكاشحين ولا تعبأن بمحك اليهود
وكن فارقًا بين دعوى أردت ودعوى فعلت بشأو بعيـد
تلك الأبيات تدلنا على أن هناك أعداء كادوا للمتنبي فسجنوه، وأنه لم يفعل ما اتهموه به. وقد أثارت القصيدة عطف الوالي عليه، فأخرجه من السجن وأطلقه واستتابه فيما يظهر، ولكن استتابته مما نسبه إليه العامة، ولم يكن بعسير على المتنبي أن يعلن توبته، وقد رأيناه أنه لم يدع هذه النبوة، وكانت الفترة التي قضاها المتنبي بعد خروجه من السجن فترة تشرد وفاقة وضعة وخمول كان يتصل بالوجهاء وأصحاب المكانة يمدحهم فلا يجيزونه على الشعر، إلا أهون الجزاء. يقولون إنه مدح أحد الوجهاء بالقصيدة المشهورة التالية التي مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
فجزاه عليها دينارا. ولم تحسن حاله حتى قصد أنطاكية ، واتصل هناك بالأمير أبي العشائر ومدحه بعدة قصائد كان أولها:
أتراها لكثـرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي
فقربه أبو العشائر وحسنت حاله عنده. كان أبو العشائر هذا قريبا لسيف الدولة علي بن حمدان رأس الدولة الحمدانية، فيسر له الوصول إليه، وكان ذلك سنة 337هـ. ودامت صحبة أبي الطيب للأمير ثمان سنوات، وخصص للشاعر ثلاثة آلاف دينار كل سنة عدا الهبات السخية والعطاء المتواصل من مال وثياب وخيول ومزارع، وخلد مقابل ذلك وقائعه مع الروم بقصائد قلَّ أن نجد لها نظيرا في الشعر العربي. ثم حدث ما عكر الصفو، فقصد الشاعر مصر.. فالمتنبي وإن كان قبل اتصاله بسيف الدولة مغمورا ثم تبلورت حياته تبلورا واضحا بعد اتصاله به، إلا أن نفسه كانت تضطرم بثورة أكَّالة، وهو لم يزل في عنفوان الشباب، فقد شرَّق وغرَّب. مكافحًا مناضلا، وعاش مع طموحه في صراع مرير يروي البديعي: كان أبو العشائر والي أنطاكية من قبل سيف الدولة، ولما قدم سيف الدولة أنطاكية قدم المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرفه منزلته من الشعر والأدب واشترط على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه. ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط وتطبع إلى ما يريد منه وذلك في سنة 337هـ وحسن موقعه عنده فقربه وأجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه وأحبه فسلمه للرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة . نال أبو الطيب جاها وحظوة من لدن سيف الدولة، ولكن من أين للشاعر المتعالي المقيم على قلق، أن يهدأ أو بالأحرى أن تهدأ خواطر الذين قطع عليهم بشعره أرزاقهم، أو أقصى منزلتهم من الأمير الذي أجل شاعره في أكرم منزلة. لقد بدأت الوشايات والسعايات في بلاط سيف الدولة تعمل عملها، حتى لقيت في نفس الأمير أكثر من صدى، فتحول حماسه لشاعره إلى فتور، ولا نقول جفاء، خصوصا وأن وراء الوشايات والسعايات كبارا من أمثال أبي فراس الحمداني وابن خالويه والنامي وسواهم من رجال البلاط
وعندها علت صيحات الشعراء وشكواهم من تعالي أبي الطيب عليهم، فأثر ذلك في سيف الدولة ثم قويت نفرته مع أبي الطيب، فأمر غلمانه بقتله، فتعرضوا له في الطريق، غير أنه استطاع تفريقهم عنه واختفى في حلب لدى بعض أصدقائه، وراسل الأمير فأنكر أنه أمر له بسوء، وبعد تسعة عشر يوما جاء إلى القصر، ورحب به سيف الدولة، وخلع عليه وسأله عن حاله، فأجاب: رأيت الموت عندك أحب إلي من الحياة عند غيرك. وكان أشياعه ينشرون مدائحه ويذيعون فضائله ويتأولون به، وأعداؤه يخنقون عليه ويغضون من شأنه. وفي ذات مرة قال أبو فراس شاعر البلاط الحمداني لابن عمه:
(هذا المتشدق كثير الإدلال عليك. فأنت تعطيه ثلاثة آلاف دينار كل سنة على ثلاث قصائد ويمكنك أن تغدق مئتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره . (غير أن أبا الطيب فارق سيف الدولة حانقا متبرما فلعل وقوفه بين يدي كافوروهو من أعداء سيف الدولة يثير غيظه، أو لعله أراد به مصانعة كافور لينال منه الذي وفد عليه من أجله على أنه - وإن ترك معه ما جرت به عادته مع سيف الدولة - فقد اتخذ لعزته لونًا آخر، فقد كان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيفه ومنطقته.
أقام أبو الطيب في مصر أربع سنوات ونصف سنة وعرض في مدائحه لكافور بسيف الدولة ورضي أن ينشد شعره واقفا بين يديه على خلاف عادته، ولقي الشاعر من كرم كافورما جعله في مصاف الأغنياء. ولكنه ما لبث أن أسفر عن أطماعه الأولى، فطلب أن يتولى (ولاية) أو (إمارة) وألح في طلبه هذا وألحف، ومدح نفسه في مطلع القصائد التي مدح بها سيده الجديد. ولما رأى كافور يماطله ويؤجل تنفيذ رغبته، راح يشكو أمله ويمتدح سيف الدولة ويعلن أسفه على فراقه. ودبت النفرة بين الرجلين، وانقطع أبو الطيب عن مدحه ثمانية أشهر، ثم نظم قصيدة ظاهرها المدح وباطنها التأنيب. ثم أصيب بالحمى ونظم أثناء مرضه قصيدة عرض فيها بكافور وبخله. ولم يكن كافورأهلا لهذا الهجاء ربما منع الشاعر ولاية أو ضيعة ولكنه استحقه بما وعد ومطل، ثم أخلف فملأ نفس الشاعر الطموح غيظا. تناقل الناس القصيدة وبلغت كافورا فامتعض. وكانت بين كافور وفاتك الرومي منافسة عنيفة، وكان الثاني يقيم بالفيوم (وهي إقطاعة له) حتى لا يضطر الركوب في معية الأسود، واتصل فاتك بأبي الطيب وراسله، والتقيا في الصحراء، فكانت هديته للشاعر ألف دينار ذهبا أتبعها بعدة هدايا ثمينة، فمدحه بقصيدة وخز فيها كافورا وخزا مؤلمًا.
أما كافورفقد كظم غيظه، وطلب من الشاعر أن يعود إلى سيرته الأولى في مدحه، فتجددت آماله، وحسب أن الوالي - أو كما يلقبه (أبو المسك) و(الأستاذ) سيبرّ بوعده في النهاية، ونظم قصيدة طويلة كرر فيها طلباته السابقة وملأها لوما وتوبيخا، فغضب أبو المسك ومنع الشاعر عن الرحيل وبث حوله العيون والأرصاد. ولما حل العيد وشغلت احتفالاته رجال الدولة هرب أبو الطيب ونظم قصيدته المشهورة هذه عند خروجه من مصر ، ومطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر منك تجديد
وسار في درب غير مطروقة، وعلم كافور بالأمر، فكتب إلى عماله أن يقتفوا آثاره ويعتقلوه، لكنه استطاع الإفلات بعد رحلة مضنية حتى وصل الكوفة بعد ثلاثة أشهر..
هجا الشاعر كافورا وأفحش، وجاءت كل كلمة في قصائده شواظا من نار. وبقي في العراق ثلاث سنوات، ومر ببغداد عدة مرات، وأبى أن يمدح الوزير المهلبي، فأغرى به جماعة من شعراء العاصمة، أفرطوا في شتمه وتحقيره فلم يجبهم. علم سيف الدولة بخروج الشاعر من مصر مخاصما لكافور ، وبلغته قصائده في هجوه، فبعث إليه بالهدايا، وسأله القدوم إلى حلب ، فعاد إلى مدحه، ثم بعث إليه قصيدة يعزيه بوفاة أخته. وقصد بعد ذلك الوزير ابن العميد الأديب الشاعر، في فارس ومدحه. وسافر إلى عضد الدولة البويهي في مدينة شيراز ، فرحب به وأنزله أفضل منزل، ومدحه بست قصائد كافأه عليها بمال وافر، وخلع سنية. وبقي في شيراز مدة تقارب الثلاثة أشهر، رحل عنها مودعا مليكها بقصيدة كانت آخر قصيدة له، يقول:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
تجمعت في فؤاده همم ملء فؤاد الزمان إحداها
وسار حتى بلغ الأهواز. ثم نزل بواسط ، وهي تبعد عن بغداد نحو أربعين فرسخا. فلما كان بالقرب من النعمانية في موضع يقال له (الصافية) بالجانب الغربي من سواد العراق، خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي ومعه عدد من الفرسان، وقيل جماعة من بني ضبة تآمروا على قتله، لأن المتنبي كان قد هجا ضبة بن يزيد بن أخته، وتعرض لأمه وأفحش في هجوهما، فغاظ ذلك فاتكا، وتحين الفرص للفتك به فلما التقيا تقاتلا قتالا عنيفا. فقال له أحد غلمانه، لا يتحدث الناس عنك بالفرار، وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له المتنبي قتلتني قتلك الله، وقاتل حتى قتل هو وابنه محسَّد وغلامه مفلح. وكان ذلك في رمضان سنة 354هـ/ 965م وهو آنذاك في الواحدة والخمسين من عمره.
هكذا انطفأت شعلة وضاءة، وانتهت حياة شاعر عبقري عظيم سجل اسمه في سجل الخالدين.
(2)
لعب المتنبي دورا كبيرا في الشعر العربي، فقد طرق أبواب الفنون الشعرية المعروفة، ولم يكن في وقته من يساويه في فنونه التي جمع فيها من الأدب فنونا وذلك أنه ضرب في كل شيء منها بسهم وافر. وكان يتخذ شعره صناعة، فلا يقوله ارتجالا ولا يندفع مع سجيته. وقد أجاد وأبدع في شعره سواء من ناحية الخيال والأسلوب.
ويظهر أن ذكاءه الحاد ونفسيته العالية ساعداه كثيرا على التحليق في شعره بين كثير من الشعراء الذين عاصروه. ونتيجة رحلة شاقة في ديوانه وتتبع أخباره وجدت شعره يكاد يتصف بدقة وصف وصدق لهجة وبراعة تركيب وروعة معاني. فهو شاعر متقد العاطفة، مرهف الحس، تطالعنا في شعره صور مغرية جذابة تأخذ بمعاقد القلب. والمتنبي كان أبعد شعراء هذه الحقبة صيتا، ومع أنه كان جوابة يتنقل ما بين مصر و خراسان يمدح الملوك والأمراء والوزراء وينال رفدهم، فإنه يقول كاللائم لنفسه:
إلى كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل الناس في طلب المعالي ببيع الشعر في سوق الكساد
ونستطيع أن نلمس من قراءتنا للديوان، تفوق أبي الطيب المتنبي في أغراض معينة هي: المدح والفخر والهجاء والحكمة والرثاء والوصف. و أبو الطيب كما يتضح لنا كثير المبالغة في شعره، فنحن نأخذها عليه من الناحية الأدبية، ولا نستدل بها على فساد عقيدته، فمن ذلك قوله في مدح محمد بن زريق.
لو كان للنيران ضوء جبينه
عبدت فصار العالمون مجوسا
ومن ذلك قوله من قصيدة قالها في صباه:
عمرك الله هل رأيت بدورًا
طلعت في براقع وعقود
راميات بأسهم ريشها الهد ب تشق القلوب قبل الجلود
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من العنقود
والمتنبي فخور بشعره، لا يرى في الشعراء من يوازيه، وقد ساءه من سيف الدولة أن يساويه بغيره وهو الشاعر الكبير الذي يحب سيف الدولة حبا صادقا، فعاتبه على ذلك ودعاه إلى التمييز بين الشحم والورم، والنور والظلمة، وأن يقدر مكانه الرفيع بين الأدب والشعر.
وما الدهر إلا من رواة قلائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدَا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
وربما كان المتنبي وحده الشاعر الذي حضر الحروب في هذه الحقبة، وحارب في جيش سيف الدولة، وذاق لذة النصر ومرارة الهزيمة، وقال أحسن الشعر العربي الذي قيل في وصف الحرب من قبل ومن بعد، ويكفيه أنه استطاع أن ينشد بمجلس سيف الدولة على رؤوس حساده:
ومرهف سرت بين الجحفلين به
حتى أتته يدٌ فرّاسة وفـم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
صحبت في الفلوات الوحش منفردا حتى تعجب مني القور والأكم
وما دمنا في الحديث عن فخره، فلا غرابة إذا ما ذكر قومه في مفاخره:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد وعوذ الجاني وغوث الطريد
ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
إن أكن معجبًا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
يذهب الدكتور عبد الوهاب عزام إلى أن قصائد المتنبي في وصف حروب سيف الدولة الداخلية والخارجية تفوق الملاحم اليونانية واللاتينية والهندية والفارسية فهو الشاعر الذي وصف وقائع ذلك العصر وحوادثه الجسام وجلائل الحروب والأعمال وصفا دقيقا في قصائد حماسية رائعة. يقول المثل العربي المشهور "القتل بالسيف أوحى" أو "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" حيث تدور رحى الحرب على السيف قديما، فهو سلاح ماض يفيد في ميادين الحرب منذ الجاهلية حتى الأمس القريب. يقول المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
وقد قرر المتنبي للسيف أمثالا سوائر بقيت كالكواكب سطوعا ونصوعا على هامة الزمن:
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة
فلا تستعدن الحسام اليمانيا
وقوله:
تحمي السيوف على أعدائه معه
كأنهن بنوه أو عشائره
وقوله:
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت إليه والسيوف دم
وقوله:
حقرت الردينيات حتى طرحتها
وحتى كأن السيف للرمح شاتم
ومن أروع قصائد الحرب قصيدتان الأولى بائية وهي التي وصف بها المتنبي ظفر سيف الدولة ببني كلاب، وذلك لدى خروجهم عليه سنة 343هـ كقوله:
طلبتهم على الأمواه حتى
تخوف أن تفتشه السحاب
فبت لياليًا لا نوم فيها تخب بك المسوّمة العراب
يهز الجيش حولك جانبيه كما نفضت جناحيها العقاب
وتسأل عنهم الفلوات حتى أجابك بعضها وهم الجواب
أما القصيدة الثانية الرائية التي سجل فيها انتصار الأمير المذكور على قبائل عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب أيضا عندما تألبوا عليه وعاثوا في أطراف إمارته فسادا عام 344هـ وفيها تصوير صادق وتحليل مستفيض وصف فيها الشاعر عدم ركون البدو بطبيعتهم إلى الشغب وتألبهم على سيف الدولة ومحاولتهم الإخلال بنظام مملكته وانهزامهم أمامه في النهاية انهزاما شنيعا وإبقاءه عليهم حلما وكرما.
فلزَّهم الطـراد إلى قتال
أحدّ سلاحهم فيه الفـرار
مضوا متسابقي الأعضاء فيه لأرؤسهم بأرجلهم عثار
يشلهم بكل أقبّ نهدٍ لفارسه على الخيل الخيار
وكل أحم يغسل جانباه على الكعبين منه دم ممار
يغادر كل ملتفت إليه ولبَّته لثعلبــه وجــار
إذا صرف النهار الضوء عنهم دجا ليلان ليل والغبار
وإن جنح الظلام انجاب عنهم أضاء المشرفية والنهار
وأخيرا.. فلا أحسب أنني استوفيت هذا "العالم" الرحب بحثا، فهو بحر متلاطم الأمواج لا زال شاغل الناس ومالئ الدنيا ومدد الشعراء وتنازع الباحثين على مدارج العصور.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elmasrawia.own0.com
 
سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
المصراويه :: الفئه الثانيه :: ادب :: المتنبى-
انتقل الى: